فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية.
فقال معللًا أو مستأنفًا: {حملته أمه وهنًا} أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت {على وهن} أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئًا بقوله: {وفصاله} أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه.
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيمًا لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال: {في عامين} تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى، وفي التعبير بالعام أيضًا إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه- مع كونها أضعف ما يكون في تربيته- أيام سعة وسرور، والتعبير بفي مشيرًا إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله، وتدعو إليه المصلحة من أمره.
ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها، ذكر الموصى به فقال مفسرًا ل {وصينا} {أن اشكر} ولما كان الشكر منظورًا إليه أتم نظر، قصر فعله، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك.
ولما كان لابد له من متعلق، كان كأنه قال: لمن؟ فقال مقدمًا ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتدًا به، لافتًا القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم تنصيصًا على المراد: {لي} أي لأني المنعم بالحقيقة {ولوالديك} لكوني جعلتهما سببًا لوجودك والإحسان بتربيتك، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه: الموجودات كلها كالشجرة، والإنسان ثمرتها، وهي كالقشور والإنسان لبابها، وكالمبادئ والإنسان كمالها، ومن أين للعالم ما للإنسان؟ بل العالم العلوي فيه، ليس في العالم العلوي ما فيه، فقد جمع ما بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحيًا قوليًا، وسلم لمن له الخلق والأمر تسليمًا اختياريًا طوعيًا.
ثم علل الأمر بالشكر محذرًا فقال: {إليّ} لا إلى غيري {المصير} أي فأسألك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهرًا بما جعلت لهما من التسبب في ذلك، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما.
ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال: {وإن جاهداك} أي مع ما أمرتك به من طاعتهما، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك {على أن تشرك بي} وأشار بأداة الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدان في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة، وليست لقوة الكفار، فعبر فيها بلام العلة، إشارة إلى مطلق الجهاد الصادق بقويه وضعيفه، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما أطاع باللسان، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان، كما أخرجه هنا عن الوصف بالإحسان، ولذلك حذر في الأية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلًا وإنصافًا فقال: {ما ليس لك به علم} إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول، وأما الوجه الذي سماه أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد توحيدًا فقد كفى في أنه ليس به علم إطباقهم على أنه خارج عن طور العقل، مخالف لكل ما ورد عن الأنبياء من نقل، وإن لبسوا بإدعاء متابعة بعض الآيات كما بينه كتابي الفارض، فلا يمكن أن يتمذهب به أحد إلا بعد الانسلاخ من العقل والتكذيب بالنقل، فلم يناد أحد على نفسه بالإبطال ما نادوا به على أنفسهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد.
فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع، قال مسببًا عنه: {فلا تطعهما} أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه، بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك.
ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأسًا في كل أمر إذا خالفا في الدين، أشار إلى أنه ليس مطلقًا فقال: {وصاحبهما في الدنيا} أي في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دامت حياتهما.
ولما كان المبنى على النقصان عاجزًا عن الوفاء بجميع الحقوق، خفف عليه بالتنكير في قوله: {معروفًا} أي ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، قال ابن ميلق: ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سببًا لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية- يعني ففي سوق هذه الوصية هذا المساق أعظم تنبيه على أن تعظيم الوسائط من الخلق ليس مانعًا من الإخلاص في التوحيد، قال ابن ميلق: ومن هنا زلت أقدام أقوام تعمقوا في دعوى التوحيد حتى أعرضوا عن جانب الوسائط فوقعوا في الكفر من حيث زعموا التوحيد فإن تعظيم المعظم في الشرع تعظيم لحرمات الله، وامتثال لأمر الله، ولعمري إن هذه المزلة ليتعثر بها أتباع إبليس حيث أبى أن يسجد لغير الله، ثم قال ما معناه: وهؤلاء قوم أعرضوا عن تعظيم الوسائط زاعمين الغيرة على مقام التوحيد، وقابلهم قوم أسقطوا الوسائط جملة وقالوا: إنه ليس في الكون إلا هو، وهم أهل الوحدة المطلقة، والكل على ضلال، والحق الاقتصاد والعدل في إثبات الخالق وتوحيده، وتعظيم من أمر بتعظيمه من عبيده.
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة، نفى ذلك بقوله: {واتبع} أي بالغ في أن تتبع {سبيل} أي دين وطريق {من أناب} أي أقبل خاضعًا {إليّ} لم يلتفت إلى عبادة غيري، وهم المخلصون من أبويك وغيرهما، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقًا لها اتبع، ومن كان عمله مخالفًا لهما اجتنب.
ولما كان التقدير: فإن مرجع أموركم كلها في الدنيا إليّ، عطف عليه قوله: {ثم إليّ} أي في الآخرة، لا إلى غيري مرجعك- هكذا كان الأصل، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبرًا بالمصدر الميمي الدال على الحدث وزمانه ومكانه: {مرجعكم} حسًا ومعنى، فأكشف الحجاب {فأنبئكم} أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة وإن كان تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به {بما كنتم} بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي تجددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، وما كان في جبلاتكم مما لم يبرز إلى الخارج، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، ولعله عبر عن الحساب بالتنبئة لأن العلم بالعمل سبب للمجازاة عليه أو لأنه جمع القسمين، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة أَن اشكر للَّه}.
لما بين الله فساد اعتقادهم بسبب عنادهم بإشراك من لا يخلق شيئًا بمن خلق كل شيء بقوله: {هذا خَلْقُ الله فَأَرُونى مَاذَا خَلَقَ الذين من دُونه} وبين أن المشرك ظالم ضال، ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة وإن لم يكن هناك نبوة وهذا إشارة إلى معنى، وهو أن اتباع النبي عليه السلام لازم فيما لا يعقل معناه إظهارًا للتعبد فكيف ما لا يختص بالنبوة، بل يدرك بالعقل معناه وما جاء به النبي عليه السلام مدرك بالحكمة وذكر حكاية لقمان وأنه أدركه بالحكمة وقوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة الله تعالى، فنقول حصول العمل على وفق المعلوم، والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئًا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيمًا وإنما يكون مبخوتًا، ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال إنه حكيم، وإن ظهر لفعله مصلحة وخلو عن مفسدة، لعدم علمه به أولًا، ومن يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس ويلقي نفسه من ذلك المكان وتنكسر أعضاؤه لا يقال إنه حكيم وإن علم ما يكون في فعله، ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {أَن اشكر للَّه} فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر الله إيتاء الحكمة بقوله: {أَن اشكر للَّه} وهو كذلك، لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم، لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقًا لعلمه وكان حكمة، وإن أهمل الأهم كان مخالفًا للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء، لكن شكر الله أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي، ثم إن الله تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله: {وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسه} وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله: {وَمَن كَفَرَ فَإنَّ الله غَنىٌّ حَميدٌ} أي الله غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه، وفي الآية مسائل ولطائف الأولى: فسر الله إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر، لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب: أن قوله تعالى: {أَن اشكر للَّه} أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين، وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف.
المسألة الثانية:
قال في الشكر {ومن يشكر} بصيغة المستقبل، وفي الكفران {ومن كفر فإن الله غني} وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله، بل أبدًا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود، كما قال: {رَبّ أَوْزعْنى أَنْ أَشْكُرَ نعْمَتَك} [النمل: 19] وكما قال تعالى: {وَإن تَعُدُّوا نعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18] فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيهًا على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام، فقال بصيغة الماضي.
المسألة الثالثة:
قال تعالى هنا: {وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسه وَمَن كَفَرَ} بتقديم الشكر على الكفران، وقال في سورة الروم: {وَمَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ وَمَنْ عَملَ صالحا فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُون} [الروم: 44] فنقول هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ القيم من قَبْل أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ منَ الله يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُون} [الروم: 43] وههنا الذكر للترغيب، لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد، وقوله: {وَمَنْ عَملَ صالحا} يحقق ما ذكرنا أولًا، لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي ومن عمل، وههنا لما كان المذكور في الابتداء قال: {وَمَن يَشْكُرْ} بلفظ المستقبل وقوله: {وَمَن كَفَرَ فَإنَّ الله غَنىٌّ} عن حمد الحامدين، حميد في ذاته من غير حمدهم، وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامدًا لله تعالى.
{وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنه وَهُوَ يَعظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْركْ باللَّه إنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ (13)}.
عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرًا في نفسه وحين جعلناه واعظًا لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملًا في نفسه ومكملًا لغيره فقوله: {أَن اشكر} إشارة إلى الكمال وقوله: {وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنه وَهُوَ يَعظُهُ} إشارة إلى التكميل، وفي هذا لطيفة وهي أن الله ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معتاد، وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا، ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال: {إنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظيمٌ} أما أنه ظلم فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنى ءادَمَ} [الإسراء: 70] في عبادة الخسيس أو لأنه وضع العبادة في غير موضعها وهي غير وجه الله وسبيله، وأما أنه عظيم فلأنه وضع في موضع ليس موضعه، ولا يجوز أن يكون موضعه، وهذا لأن من يأخذ مال زيد ويعطي عمرًا يكون ظلمًا من حيث إنه وضع مال زيد في يد عمرو، ولكن جائز أن يكون ذلك ملك عمرو أو يصير ملكه ببيع سابق أو بتمليك لاحق، وأما الإشراك فوضع المعبودية في غير الله تعالى ولا يجوز أن يكون غيره معبودًا أصلًا.
{وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بوَالدَيْه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفصَالُهُ في عَامَيْن أَن اشْكُرْ لي وَلوَالدَيْكَ إلَيَّ الْمَصيرُ (14)}.
لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبة منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة، بل هي واجبة لغير الله في بعض الصور مثل خدمة الأبوين، ثم بين السبب فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} يعني لله على العبيد نعمة الإيجاد ابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق وجعل بفضله للأم ما له صورة ذلك وإن لم يكن لها حقيقة فإن الحمل به يظهر الوجود، وبالرضاع يحصل التربية والبقاء فقال حملته أمه أي صارت بقدرة الله سبب وجوده {وفصاله في عامين} أي صارت بقدرته أيضًا سبب بقائه، فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة، فإن الخدمة لها صورة العبادة، فإن قال قائل وصى الله بالوالدين وذكر السبب في حق الأم فنقول خص الأم بالذكر وفي الأب ما وجد في الأم فإن الأب حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ وقوله: {أَن اشكر لى ولوالديك} لما كان الله تعالى بفضله جعل من الوالدين صورة ما من الله، فإن الوجود في الحقيقة من الله وفي الصورة يظهر من الوالدين جعل الشكر بينهما فقال: {أَن اشكر لى ولوالديك} ثم بين الفرق وقال: {إلَىَّ المصير} يعني نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي في الدنيا والآخرة، فإن إلي المصير أو نقول لما أمر بالشكر لنفسه وللوالدين قال الجزاء عليَّ وقت المصير إليّ.
{وَإنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْركَ بي مَا لَيْسَ لَكَ به علْمٌ فَلَا تُطعْهُمَا وَصَاحبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} يعني أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما، وقد ذكرنا تفسير الآية في العنكبوت، وقال هاهنا {واتبع سَبيلَ مَنْ أَنَابَ إلَىَّ} يعني صاحبهما بجسمك فإن حقهما على جسمك، واتبع سبيل النبي عليه السلام بعقلك، فإنه مربي عقلك، كما أن الوالد مربي جسمك. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}.
قَالَ الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، يَعْني ضَعْفَ الْوَلَد عَلَى ضَعْف الْأُمّ وَقيلَ: بَلْ الْمَعْنَى فيه شدَّةُ الْجَهْد {وَفصَالُهُ في عَامَيْن} يَعْني في انْقضَاء عَامَيْن، وَفي آيَةٍ أُخْرَى {وَحَمْلُهُ وَفصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرَا} فَحَصَلَ بمَجْمُوع الْآيَتَيْن أَنَّ أَقَلَّ مُدَّة الْحَمْل ستَّةُ أَشْهُرٍ وَبه اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مُدَّة أَقَلّ الْحَمْل وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعلْم عَلَيْه. اهـ.
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بوَالدَيْه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلَى قَوْله: {وَإنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْركَ بي مَا لَيْسَ لَك به علْمٌ فَلَا تُطعْهُمَا وَصَاحبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أَبَانَ تَعَالَى بذَلكَ أَنَّ أَمْرَهُ بالْإحْسَان إلَى الْوَالدَيْن عَامٌّ في الْوَالدَيْن الْمُسْلمَيْن وَالْكُفَّار، لقَوْله تَعَالَى: {وَإنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْركَ بي مَا لَيْسَ لَك به علْمٌ} وَأَكَّدَهُ بقَوْله: {وَصَاحبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَفي ذَلكَ دَليلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحقُّ الْقَوَدَ عَلَى أَبيه وَأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لَهُ إذَا قَذَفَهُ وَلَا يُحْبَسُ لَهُ بدَيْنٍ عَلَيْه وَأَنَّ عَلَيْه نَفَقَتَهُمَا إذَا احْتَاجَا إلَيْه؛ إذْ كَانَ جَميعُ ذَلكَ منْ الصُّحْبَة بالْمَعْرُوف، وَفعْلُ ضدّه يُنَافي مُصَاحَبَتَهُمَا بالْمَعْرُوف؛ وَلذَلكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْأَبَ لَا يُحْبَسُ بدَيْن ابْنه، وَرُويَ عَنْ أَبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْبسُهُ إذَا كَانَ مُتَمَرّدًا.
وقَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} يَدُلُّ عَلَى صحَّة إجْمَاع الْمُسْلمينَ لأَمْر اللَّه تَعَالَى إيَّانَا باتّبَاعهمْ، وَهُوَ مثْلُ قَوْله: {وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيل الْمُؤْمنينَ}. اهـ.